عــــــــــــــــــــذراً للإطــــــــــــــــــــالة ............
إن المصدر الإنساني للشعوب العربية هو الصحراء ، بما فيها من عنف بالمناخ ، حيث يتراوح في اليوم الواحد بين القسوة في الحر أمام شمس النهار والقسوة بالبرد في ظلمة الليل ..
بيئة مغلقة تعزلها البحار عن باقي العالم من ثلاث جهات ، والرمال من الجهة الرابعة ، هذه البيئة هي مهد الشعوب السامية منذ ما عرف التاريخ الشعوب ..
انتشروا منها إلى حوا فيها في ما بين النهرين وعلى شواطئ المتوسط ثم إلى شواطئ افريقيا الشمالية ، وقد دامت السمات والنزعات السامية ترافقهم بعد أن تلاشت فيهم شعوب كثيرة بطريق الاندماج ..
بقي العرب في الجزيرة الجذر الأصيل ، فداموا يغذونها ويحتفظون بتأثيرات البيئة الصحراوية الجغرافية والسلالية المتأتية عنها ..
امتداد عميق في الحس النفسي وكأنه امتداد بين قطبي المناخ أو امتداد الفأل والشؤم بين مطرة تخصب الأرض فتنبت الخضرة للقطعان وتحمل الرضى مع الخصب ودر اللبن ، وبين جفاف ينذر بالويل فيدفع للهجرة وترك الديار ..
عواصف تثور فتعمي الأبصار وتمحو معالم البعيد ، فتجعل مجالدة الإنسان مباشرة مع قوى الطبيعة ذاتها ،
ترقب دائم للقدر واعتراف أصيل عفوي بسلطة المجهول بدءاً من اعصار الرمل حتى غارات الصعاليك ..
تجوال عبثي في بيئة مغلقة ، من دمنة إلى دمنة ومن ربع إلى ربع حيث تكون العودة غالباً إلى حيث بدأت المسيرة ..
توتر نفسي دائم أمام العالم يجعل الحس ذا رغبات حادّة عميقة ويجعل المثل في حالة تجاوز دائم لذاتها وتكون الأهداف من العمق بحيث تغرق في المطلق ..
من البيئة الجغرافية هذه نشأت الذاتية العربية المتوترة دوماً باشتداد نحو المطلق ، ووفق هذه الذاتية تكونت الأخلاقية العربية التي تتميز بسلوك خاص متفرد بين أخلاقيات الشعوب الأخرى ، فيها انتظمت القبيلة وترسخت بها عفوية الأخلاق وطبعيه الاجتماع ، كما فيها تكونت المثل والتقاليد ، وتبدت نزعة الحرية مع براءة حرية الصراع مع سوافي الرمال وبراءة المساواة بين بدو رحل لهم كل الأرض التي يصلونهــا ..
استغرق الحس العربي في المطلق ، فرفع الآلهة قديماً إلى المثل وأبعدهم عن البشر ، مبالغة في تقديرهم ، ومع التوحيد ألقى عصاه مسلماً لإلــه واحد له كل إرادة ومنه كل قوة ، هو البدء وهو النهاية ، وفيه الجمال وكمال كل نقص إنساني ..
عمق الحس هذا في الذاتية العربية جعل كل صفة لكائن وكل عقيدة أو فكرة ترقى بالمبالغة حتى المطلق الكامل ..
وجميع ما وصلنا من المجتمع العربي من أدب وسلوك وعقائد جاء من خلال هذه النزعة كما عنها تأتي كل ما برز من الشخصية العربية سواء في الحياة الإيجابية الحضارية والاجتماعية أم في الحياة الانفعالية ، السلبية كالشك والقلق أمام كل معطي جديد ..
فتح العرب عدداً من ممالك العالم باسم الله المطلق وفرضوا على شعوب كثيرة النظرة الكلية العميقة إلى الوجود ..
إن الساميين بعامة هم من علم التأمل في المطلق ، وقد أخضعوا العالم الأوربي لفكرتهــــــم هذه ..
ولــــــم تكن انتفاضة الحضارة الغربية الآلية المعاصرة سوى تمرد على هذا الخضوع ، ورد فعل أصيل في الذاتية الغربية { النزاعة للموضوعية المادية } ..
فمع الساميين ومع العرب بخاصة تقفز رغبة السيطرة بطفرة إلى المطلق حتى ولو إلى ما بعد الحياة ، بينما رغبة الأوروبيين هي التدرج بالسيطرة على العالم بعد تقبله كما هو بماديته وبما هو عليه ..
لقد تحللت الحضارة العربية عندما بدأت الحاجة الذاتية تقتضي الاهتمام بجزئيات مادة العالم ، بينما بدأت الحضارة الأوروبية عندما غدت الكشوف الجزئية في خواص المادة { كأعتدة للبنـــاء } ....................
[ الإنسان والحضارة ص 69_70_71 ]